الاثنين 19 ذو القعدة 1432 هـ الموافق لـ: 17 أكتوبر 2011 12:15

- أحكام الطّيبِ للمحرِم

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فإنّ الإحرام هو نيّة أحد النّسكين: الحجّ أو العمرة، أو نيّتهما معا.

وإذا أحرم المسلم حرُم عليه ثمانية أمور:

1- تقليم الأظفار.

2- وأخذ شيء من شعره.

3- ولبس الرّجل المخيط المحيط بالجسد، ولبس المرأة النّقاب والقفّازين.

4- والخِطبةُ وعقد النّكاح لنفسه، أو لغيره.

5- ويحرم عليه الصّيد إلاّ صيد البحر، بل لا يأكل من الصّيد الّذي صِيد له.

6- والجماع ودواعيه.

7- والجدال: لقوله تعالى:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}.

8- ومسّ الطّيب.

وهذه الأسطر إنّما نتناول فيها الأمر الثّامن، وهو الطّيب.

المبحث الأوّل: الدّليل على تحريم الطّيب على المحرم.

في ذلك حديثان وإجماع:

- الحديث الأوّل: ما رواه الشّيخان عن ابنِ عُمَر رضي الله عنهما عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:

(( وَلَا تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ )).

[والزّعفران والورس: نباتان طيّبا الرّائحة يُصبغ بهما].

- الحديث الثّاني: ما رواه البخاري ومسلم أيضا عن ابْنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال:

بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم بِعَرَفَةَ، إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَأَقْعَصَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ بِثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا )).

والشّاهد: قوله صلّى الله عليه وسلّم: ( ولا تحنّطوه )، والحنوط: نوع من أنواع الطّيب يستعمل في تجهيز الميّت.

وفي رواية لهما قالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا )).

[انظر "شرح مسلم" للنّووي، و" زاد المعاد " لابن القيّم (2/239)، و"فتح الباري" لابن حجر].

- أمّا الإجماع:

فقد قال ابن قدامة المقدسيّ رحمه الله في " المغني " (3/296):" أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من الطيب ".

المبحث الثّاني: ما هو الطّيب المحرّم على المحرِم ؟

اتّفقوا على أنّ الطّيب المصنوع من الإنسان محرّم على المحرِم.

ولكنّهم اختلفوا في الطّيب غير المصنوع على قولين:

أ) فمذهب الحنفيّة وبعض المالكيّة وأحمد في رواية: أنّه يحرم.

ب) ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه لا يحرم، وهو مذهب طاوس، وعطاء، ومجاهد، وابن المنذر.

والقول الثّاني هو الصّحيح إن شاء الله.

والدّليل على ذلك أنّ المحرم غير ممنوع من السّدر، كما في الحديث السّابق ذكرُه ابن عبّاس رضي الله عنه.

وللمانعين ثلاثُ علل:

إحداها: أنّه يقتل الهوامّ من رأسه، وهو ممنوع من التفلّي.

الثّانية: أنّه ترف وإزالة للشّعث، وهذا ينافي الإحرام.

الثّالثة: أنّه يستلذّ رائحته فأشبه الطِّيب.

وأجاب ابن القيّم رحمه الله عن ذلك بقوله:

" والعلل الثلاث واهية جدّا، والصّواب جوازه للنصّ، ولم يُحرِّم الله ورسوله على المحرم إزالةَ الشّعث بالاغتسال ولا قتل القُمَّل، وليس السّدر من الطِّيب في شيء " [" زاد المعاد " (2/239)].

المبحث الثّالث: تفصيل أحكام التطيّب للمحرم.

وفي ذلك مسائل ثلاث:

المسألة الأولى: حكم تطييب الثوب.

- فلا خلاف بين أهل العلم في تحريم تطييب المحرِم لثيابِه، للتّنصيص عليه في حديث ابن عبّاس السّابق.

ومن هنا قال العلماء: المحرم ممنوع من استعمال الطِّيب في إزاره، أو ردائه، وجميع ثيابه، وفراشه، ونعله، حتى لو عَلِق بنعله طيبٌ وجب أن يبادر إلى نزعه.

ولا يضع عليه ثوبا مسّه الورس أو الزّعفران، أو نحوُهما من صبغٍ له طيب.

كذلك لا يجوز له حمل طيب تفوح رائحتُه، أو شدّه بطرف ثوبه، كالمسك.

- أمّا الثوب الّذي فيه طيب قبل الإحرام، فاختلفوا في جواز لبسه على قولين:

أ) فلا يجوز عند الحنفية والمالكيّة لبسُه.

ب) ويجوز عند الشّافعية والحنابلة تطييبُ ثوب الإحرام عند إرادة الإحرام، ولا يضرّ بقاءُ الرّائحة في الثوب بعد الإحرام، كما لا يضرّ بقاء الرّائحة الطيّبة في البدن اتّفاقا، قياسا للثّوب على البدن.

والقول الثّاني هو الصّحيح إن شاء الله؛ لما رواه البخاري ومسلم عن عائشةَ حين ذُكِر لَهَا قَوْلُ ابنِ عُمَرَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا ! فَقَالَتْ عَائِشَةُ:" أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم، ثُمَّ طَافَ فِي نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا ".

وقالت رضي الله عنها:" كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ النَّبِيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم وَهُوَ مُحْرِمٌ ".

وبوّب البخاري لهذا الحديث بقوله:" باب من تطيّب، ثمّ اغتسل وبقي أثر الطيب ".

ومن قواعد الفقه: أنّه يغتفر في الدّوام ما لا يغتفر في الابتداء.

تنبيه: لكنّ الفقهاء نصّوا على أنّه لو نزع ثوب الإحرام، أو سقط عنه، فلا يجوز له أن يعود إلى لبسه ما دامت الرائحة فيه، بل يزيل منه الرائحة ثم يلبسه.

المسألة الثّانية: تطييب البدن.

يحرم على المحرم استعمال الطّيب في بدنه باتّفاق الفقهاء، ولو للتّداوي.

ولا يخضب رأسه، ولا لحيته، ولا شيئا من جسمه، ولا يغسله بما فيه طيب.[من ذلك استعمال الصّابون المصنّع المشتمل على عطور].

المسألة الثّالثة: شمّ المحرم للطّيب.

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

أ) يُكرَه عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة، ولا جزاء فيه عندهم.

[" المسلك المتقسط " (ص 82)، و"الدرّ المختار " (2/291)، وشرح الزّرقاني على الموطّأ (2/311)].

ب) أما الحنابلة فقالوا: يحرم تعمُّد شمِّ الطّيب، ويجب فيه الفداء، كالمسك والكافور ونحوهما ممّا يُتطيّب بشمّه.

["الشرح الكبير وحاشيته " (2/72)].

المبحث الرّابع: متى يحلّ الطّيب للمحرم ؟

القول الأوّل: قول جمهور أهل العلم:

أنّ التحلّل الأوّل يحلّ للمحرم كلّ شيء، بما في ذلك الطّيب، إلاّ النّساء، فلا يحلّ له معاشرتهنّ إلى التحلّل الثّاني.

إلاّ أنّ التحلّل الأوّل يحصل عند الجمهور بفعل اثنين من ثلاثة: الرّمي، والطّواف، والحلق.

وأمّا ابن حزم رحمه الله فيرى التحلّل الأوّل بمجرّد الرّمي، كما في "المحلّى" (7/139)، وقال:" وهو قول عائشة، وابن الزّبير، وطاوس، وعلقمة، وخارجة بن زيد بن ثابت ".

وقول ابن حزم رحمه الله هو الصّواب؛ لما رواه أحمد والنّسائي وابن ماجه عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال:

" إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ ".

وقد يقول قائل: هذا رأي لابن عبّاس رضي الله عنهما ؟!

فالجواب: أنّه رفعه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقد روى أحمد عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلم: (( إِذَا رَمَيْتُمْ الجَمْرَةَ؛ فَقَدْ حَلَّ كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّسَاءَ )) [" السّلسلة الصّحيحة " برقم (239)].

ففي الحديث دلالة ظاهرة على أنّ الحاجّ يحلُّ له بالرّمي كلّ محظور من محظورات الإحرام إلاّ الوطء؛ فإنّه لا يحلّ له بالإجماع.

القول الثّاني:

بعض أهل العلم منع المحرمَ من الطّيب إلى أن يتحلّل التحلّل الثّاني، فألحقوا الطّيبَ بالنّساء.

وهو قول عمر رضي الله عنه وبعض الصّحابة والتّابعين، وعليه بعض الحنفيّة كما ذكر ابن عابدين في " حاشيته " على "البحر الرائق" (2/373).  وحكى الخلاف فيه غير واحد من أهل العلم؛ منهم ابن رشد في " البداية " (1/295).

واستدلّوا بما رواه مالك والتّرمذي وغيرهما أنّ عُمَرَ بنَ الخَطّابِ رضي الله عنه خَطَبَ النَّاسَ بِعَرَفَةَ وَعَلَّمَهُمْ أَمْرَ الْحَجِّ وَقَالَ لَهُمْ - فِيمَا قَالَ -:

" إِذَا جِئْتُمْ مِنًى فَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَى الْحَاجِّ إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ، لَا يَمَسَّ أَحَدٌ نِسَاءً وَلَا طِيبًا حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ".

قال التّرمذي رحمه الله:

" وفي الباب عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه، والعملُ على هذا عندَ أكثرِ أهلِ العلْمِ من أصحابِ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وغيرهمْ، يرون أنّ المحرمَ إذا رمى جمرةَ العقبةِ يومَ النّحرِ، وذبح وحلقَ أو قصّر، فقد حلّ له كلّ شيءٍ حرُم عليهِ، إلا النِّسَاءَ.

وهو قولُ الشّافعيِّ وأحمدَ وإسحقَ.

وقد رويَ عن عمرَ بنِ الخطّابِ رضي الله عنه أنّه قال: حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ. وقد ذهب بعض أهل العلمِ إلى هذا من أصحاب النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم وغيرِهم، وهو قولُ أهلِ الكوفةِ ".اهـ.

التّرجيح:

والصّحيح إن شاء الله هو مذهب جمهور الصّحابة والعلماء، لما رواه أحمد والنّسائي وابن ماجه عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال:

إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ " قِيلَ: وَالطِّيبُ ؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم يَتَضَمَّخُ بِالْمِسْكِ، أَفَطِيبٌ هُوَ ؟.

وروى التّرمذي عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ.

والله أعلم، وأعزّ وأكرم.

عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي